في غرف العلاج النفسي، لا يأتي الألم دائمًا بصورته المباشرة. نادراً ما يقول المراجع: “أنا أحتاج الاحتواء”، بل كثيرًا ما يظهر احتياجه في هيئة غضبٍ لا يُفهَم، أو انسحابٍ مفاجئ، أو حتى سخرية من الذات.

 

 

 

✍️ بقلم: د. رشا بخيت الطحاوي
استشاري الصحة النفسية والتربية الخاصة

كثير من السلوكيات التي نُصنّفها كـ “مشكلات” أو “اضطرابات”، هي في جوهرها أصوات خافتة لاحتياجات لم يُصرّح بها قط. إنه الاحتياج البسيط… الذي لم يجد أذنًا تسمعه أو قلبًا يحتضنه. ذلك الاحتياج الذي لم يُشبَع في حينه، فكبر داخل النفس، وتشكل كسلوك، أو وجع، أو اضطراب.

💭 الاحتياج لا يُلغي القوة… بل يكشف حقيقتها

الاعتراف بالاحتياج ليس ضعفًا، بل هو أحد أوجه الوعي والنضج. أن تقول: “أنا أحتاج” لا يعني أنك هشّ… بل يعني أنك حيّ. إنسان بكل ما في الإنسانية من شوق للأمان، والقبول، والتقدير.

لكن لماذا نخجل من احتياجاتنا؟ لأننا تربّينا على أن “القوي لا يطلب”، وأن التعبير عن المشاعر “دلع”، وأن من يتألم بصوتٍ مسموع… يُوصم بالدراما.

والحقيقة؟ أن كتمان الاحتياج لا يلغيه… بل يدفنه حيًّا في الجسد، وفي العلاقات، وفي السلوك.

🔍 من قلب الجلسات… أصوات لا تُنسى

جلسة مع طفل:
وصفه والداه بأنه “كثير الصراخ، عنيد، لا يسمع الكلام”. لكن حين جلسنا معًا، قال لي:
“أنا مش بحب أزعق… بس ماما دايمًا مشغولة… أنا بحاول أخليها تبصلي.”

هنا أدركت أن ما نراه “سلوكًا مزعجًا”، كان في الحقيقة نداء استغاثة عاطفي.

جلسة مع فتاة مراهقة:
“أنا لما بزعل محدش بيسمعني… فلما بانفجر، الناس فجأة تفتكر إني موجودة.”

كلماتها كانت مرآة لألمٍ طويل… لخوفٍ من التجاهل… لرسالة دفينة: “اسمعوني قبل أن أصرخ.”

جلسة مع زوجة:
“هو مش بيغلط… بس هو مش بيعمل أي حاجة أصلاً!
أنا مش عايزة ورد… أنا بس عايزة يحس إني مهمة.”

🧠 خلاصة: كل سلوك وراءه قصة… وكل قصة تبدأ باحتياج

من طفلٍ يصرخ ليُرى… لمراهقة تصرخ كي لا تُنسى… لزوجةٍ تبتسم من الخارج وتبكي من الداخل… جميعهم يحملون احتياجًا لم يُعترف به بعد.

وفي العلاج النفسي، وفي التربية الخاصة، لسنا فقط معنيّين بضبط السلوك… بل بفهم دوافعه، والاحتضان الإنساني خلفه.

💬 رسالة أخيرة:

علموا أبناءكم أن قول “أنا أحتاج” لا يُقلل من قيمتهم…
واحتووا أنفسكم حين تشعرون بالفراغ… فأنتم تستحقون.

لأن خلف كل صمت، كل غضب، كل تهكّم… هناك نداء صغير… ينتظر فقط من يسمعه دون حكم، ويحتضنه دون شروط.

One Response

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *